التوحيد سبيل التنوير “عصر التنوير في اوروبا رؤية استراتيجية”
إن بناء العمل خارج تجربة الآخر وقيادة الإصلاح في مساحة غير المتوقع للآخرين يحتاج نفوساً تغيرت للإيمان وبالإيمان، (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[1] لتحتمل عبء المسؤولية وعاقبة النتيجة، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا * وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[2]، وهذا لا يكون الا بصفاء الأخذ والترك، واستقلالية الروح عن الدون والدنيا، إلى العلو والسماء بحبل من الله، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)[3] وسُلم الوصول بالاتباع لمنهجه ورسله.
فعصر التنوير في أوروبا الذي مُلأت الدنيا بإنتاجه وثقافته وتقدمه ورقيه الدنيوي “فقط”، كانت بداية انطلاقته الحقيقية وأسس مخزونه الحركي ليست الثورة الصناعية (1750-1850) المتمثلة فكرياً بالحركة الليبرالية، بل كانت ثورة الاصلاح الديني الداعية إلى التوحيد وصفاء الاتباع من خلال ثورة مارتن لوثر (1483-1546) الراهب واستاذ اللاهوت ومؤسس الحراك البروتستانتي وتعاليمه ال95 المعترضة على صكوك الغفران والتسلط البابوي وتحكم الكنيسة بالأفهام والأفعال للناس، ودعوته الواضحة إلى العودة إلى الكتاب المقدس وهو المصدر الوحيد للعلاقة الإيمانية .
فالإصلاح القيمي المتمثل بالإصلاح الديني هو المحرك عبر الحضارات لصناعة التغيير وترسيخ دعائم النهضة، فالثورة الصناعية وكل أدوات عصر النهضة انتهاء بالاتحاد الأوروبي هي عالة على تلك النافذة الاصلاحية التي فتحت بالتضحيات في عصور الظلام والتسلط وقرعت الأجراس إيذاناً لأجيال كاملة أن تقتدي براية الإصلاح الديني “القيمي” على مختلف مشارب ومدارس القارة العجوز، ثم ظهر “بحرية واستقلالية” الفلاسفة والمفكرين وأصحاب الرأي في كل التخصصات “بعد أن كانوا يعدموا ويتهموا بالهرطقة[4] ومع مساحة الاستقلالية” ثم توفير بيئة إبداعية للتميز والاختراع والتقدم نتج عنها النهضة الشاملة.
فلذلك كل أدوات النهضة في أوروبا تبع لأصحاب المشروع الإصلاحي القيمي “مارتن لوثر وغيره”[5] وقد تنكر أصحاب الثورات والتقدم الدنيوي لهذا الفضل ونسبوه ظلماً وبهتاناً إلى مدارسهم الفكرية المادية المنحرفة كالليبرالية والعلمانية…. وغيرها، وإنها هي السبب الوحيد في وصول الغرب لهذا التقدم والرقي في تجاهلهم الكامل لأصحاب الفضل في الأساس.[6]
فإن خلق بيئات للعمل والإبداع وكسر الأصفاد للتجهيل “صكوك الغفران” و التسلط “الكنسي” والتحكم بالبيئات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية باحتكار العلاقة بين رجال الكنيسة وأصحاب السلطة للمصالح الشخصية فقط على حساب الشعوب ومصالحهم؛ كان هو بداية النهضة والتقدم للمستقبل.
وان السبب الأصيل لعصور الظلام والتخلف في أوروبا هو الاستعمار الديني بالتسلط والتحكم الكنسي والعلاقة الدنيوية بين رجال الدين ورجال السلطة، فكان لزاماً ثورة اصلاحية من نفس التوجه والاتجاه تدعو إلى العلاقة الايمانية الحقيقية بين الإنسان وخالقه دون واسطة أو جباية للأفكار والحقوق، (مع العلم أنه كان هناك محاولات للإصلاح السياسي لم تؤثر على المشهد وانتهت بالتسليم للتسلط البابوي ويتضح ذلك في بعض محاولات آل مديتشي في فلورنسا وعلاقتهم مع جاليليو التي انتهت بوفاته طاعة للبابا…).
ولو نظرنا إلى الخط الزمني لعصر النهضة في أوروبا[7] لوجدنا أن ثورة مارتن لوثر “الاصلاح الديني” كانت البوابة لانفجار المعرفة والتنمية على كل الأصعدة، وللأسف مع تنكر معظم إن لم يكن كل المدارس الفلسفية والعلمية لحقيقة المبعث الأصيل للنهضة وهو الاصلاح القيمي “الديني” وليس فقط ذلك بل محاربته بشراسة ونقض اصوله أو حتى العلاقة ولو جزئية به “الليبرالية والعلمانية والألحاد…”
وأفضلية هذه الأمة “أمة الاسلام” أنها وسط، ” وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”[8] أي وسط كنقطة الاتزان بين الأمم ومن أراد الحفاظ على التوازن، حرص على تعاهد الاتزان بين الكفتين بالإصلاح والتجديد في كل زمان ومكان، (عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)[9] دون التنازل أو النبذ للأصول والثوابت، ( لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه.)[10]
ما أريد قوله :
لن يكون هناك نهضة للأمم دون التمسك بمشروعها القيمي وتعاهده بالإصلاح والتجديد.
بعيدا عن التسلط والتحكم أو الاستعمار الدعوي من البعض وبقاء العلاقة بين أهل العلم وأهل السلطة ذات توازن، تكفله مقاصد الشريعة لإصلاح الراعي والرعية وليس فقط الرعية دون غيرها. فالعلماء[11]عماد المجتمعات للتنمية والنهضة وهم ورثة الأنبياء، (عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقا يطلب فيه علما؛ سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر)[12]، ولم تكن الوراثة الا لحراسة الدين وسياسة الدنيا كسياسة شرعية[13] وان كانت السياسة القيام على الشيء بما يصلحه فالإصلاح القيمي اهل لذلك (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون) وهذا دليل على أن السياسية شريعة لأن الأنبياء يأتون بالشرائع سياسةً[14].
والحذر من أن يُستغل الاصلاح الديني “القيمي” إلى نهضة منحرفة ويكون جسر عبور ومرحلة للطفيليين من المدارس المنحرفة “الليبرالية والعلمانية وغيرها”.
والى أهل المدارس الفلسفية والفكرية المنحرفة ” الليبرالية والعلمانية….” من بني جلدتنا أو مَن دونهم، لن تقوم نهضة إلا بإصلاح قيمي على ثوابت رصينة راسخة ولن تكون إلا بالعلاقة مع الله ولله، ويكفينا الإسلام بشموله وتأصيله لكل أدوات الحياة دون فرض وصاية أو تحكم للعلاقة مع الله..(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[15].
اللهم استعملنا في رضاك.
المراجع
[1] سورة الرعد، آية رقم 11. [2] سورة القصص، آية رقم 83. [3] سورة آل عمران، آية رقم 113. [4] عندما نادى جاليليو بنظرياته وحواراته حول حركة مجموعات الكواكب والتي كانت مخالفة لآراء الكنيسة، ليحكم عليه بالسجن المؤبد في منزله مراعاة لوضعه الصحي ليزداد بعدها سوءاً حيث فقد بصره وتوفي بعد ذلك، كان في نظر الكنيسة مذنباً حتى عام 1992م حينما أعلنت الكنيسة اعترافها بصحة ما جاء به “جاليليو” واعتذرت عن حكمها السابق، لينال حكماً بالبراءة بعد وفاته. [5] الثورة الكوبرنيكية (نيكولاس كوبرنيكس (1543-1473) الراهب و العالم الفلكي والمختص بالقانون الكنسي) التي كسرت قيود الاحتكار العلمي المتمثل فقط بالكنيسة وأهلها فهماً واستنباطاً في نظريته مركزية الشمس. [6] وقد كانوا يهتفون في الثورة الفرنسية ولا يزالون “اشنقوا آخر ملك (اقطاعي) بأمعاء آخر قسيس (رجل دين)”. [7] راجع المسار الزمني. [8] سورة البقرة، آية رقم 143. [9] صحيح ـ أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم برقم 3740والحاكم في المستدرك، 4/522، والبيهقي في معرفة السُّنن والآثار، ص 52، والخطيب في تاريخ بغداد 2\61 ، وصحَّحه الألباني في سلسلته برقم 599، 2/150. [10] رواه مالك مرسلا والحاكم من حديث ابن عباس وإسناده حسن . وله شاهد من حديث جابر خرجته في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (1761). [11] ((أهل العلم ممن بهم صلاح الدين والدنيا)) [12] رواه الطبراني في معجمه الكبير حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي ثنا أبي شيبان بن عبد الرحمن عن عتبة ابن عبد الله عن يونس بن يزيد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي الدرداء فذكره [13] الماوردي /الأحكام السلطانية 1/15. [14] التعليق على السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية /الشيخ محمد بن عثيمين ص 93. [15] سورة الأنعام، آية رقم 162.- سيعجبك أيضاً