الاصطفاف (خارطة الموارد البشرية)
الاصطفاف هو ترتيب و تنظيم صفوف العاملين المنوط بهم مهمات وأهداف للإنجاز ، من يتقدم على من ومن في الصفوف الاول ومن يتأخر وما هي أولويات الاختيار لهذا العمل دون الآخرين ومن منا يتقدم اليوم ويتأخر غداً، من في هذه الوظيفة أو القسم أو التخصص و من له الأولوية، أي أننا نسلط الضوء استراتيجياً على خريطة الموارد البشرية التي كانت عند النبي ﷺ ليست للصحابة فقط بل لكل من تعامل معهم، كان النبي ﷺ لديه خريطة بشرية لكل قدراتهم وما يميزهم ولكل نقاط الضعف والقوة لديهم.
كيف كان النبي ﷺ لديه ديناميكية الاصطفاف لقدرات الآخرين لاستثمار قدراتهم وتحقيق الهدف، باللغة المعاصرة أن النبي ﷺ كان لديه وصف وظيفي و تحليل وظيفي لكل من تعامل معهم ، و المشكلة في العمل المعاصر ليست قلة الإمكانيات المالية أو البشرية أو غيرها، بل العلة الإستراتيجية و مكمن الضعف الحقيقي هو عدم القدرة على إدارة هذه الموارد على كافة المستويات لأن ليس لدينا خريطة إحترافية ويدعمها تحديث دائم ومبسط في المعلومات حتى نستطيع أن نستثمر هذه الموارد.
بمعنى آخر أن النبي ﷺ كان يصنع تقدير احتياج يقابل خريطة الموارد البشرية لديه، لأن هذا سوف يسد ذاك ، وهذا يقوم هذا، أن تختار الشخص المناسب هذا نصف التميز بالعمل وأن تختار المكان المناسب له هذا النصف الآخر ، حتى يصبح الشخص المناسب في المكان المناسب ، فاختيار الشخص يحتاج لخريطة في الموارد البشرية و اختيار مكانه يحتاج إلى تقدير احتياج ذو كفاءة فاعلة.
فائدة في تقدير الاحتياج في قصة ذو القرنين في قول الله تعالى ” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) ” [1] هم طلبوا منه بناء سد وكان رد ذو القرنين (أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) ، ذو القرنين حين درس الاحتياج الفعلي والتحليل الميداني للبيئة وجد أن الردم أنسب الممارسات للتطبيق من بناء السد.
وهذا ما هو المستخدم الآن تحت شعار الجودة أو الجودة الشاملة او مؤشرات الأداء والنبي ﷺ حين بسط الدعوة في بدايتها وضع كل شخص في المكان المناسب له.
أبو بكر الصديق مثلاً كان عالماً بأنساب العرب وتاريخ القبائل وتحالفاتها وهذا يقوده إلى نقاط الضعف والقوة فيهم وأن يعرف كل الاتفاقيات والعادات والتقاليد للقبائل ومالها وما عليها والحلفاء الخ … أي أنه كان لديه خريطة للعلاقات و هي بمثابة حقيبة وزارة الخارجية بلغتنا المعاصرة، فهو شخصية قوية في العلاقات ومن أشراف العرب وهكذا استثمر النبي ﷺ الرجل الذي أسلم من البداية لما له من شرف ونسب ومكانه بأن جعل من أبو بكر وكأنه مسؤول العلاقات وإدارة المكاتب الخلفية لكل تحركات النبي ﷺ وعلاقاته بالقبائل وما غيرها وجعل الاصطفاف مع الآخرين في هذة النقطة يتقدمه أبو بكر رضي الله عنه.
حسان بن ثابت رضي الله عنه كمثل اّخر كان يميزه أنه شاعر فصيح بليغ وهذا بصورة معاصرة بمثابة وزارة الإعلام والاتصالات (التواصل الاجتماعي والانترنت…)، لأن الشعر وأدوات الأدب عموماً مدحاً وهجاءً مثل وسائل التواصل الموجودة الآن فالأخبار كانت تشيع في جزيرة العرب بسرعة خارقة في أقل من ثلاث أيام عن طريق الشعر وغيره من أدوات التواصل، والنبي ﷺ حين عرف ميزاته اصطفاه فيما يميزه ، هذا هو مؤشر الأداء الذي يعطي اعلى مؤشرات الإنجاز المهني لذلك كلما أحتاج النبي ﷺ إلي البيان والإبلاغ كان يستعين بحسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.
خالد بن الوليد ما يميزه أنه قيادي عسكري وخبير استراتيجي لادارة الحروب والمعارك ، عرف النبي ﷺ هذة الميزة عن خالد فاهتم بها ولم يشغل خالد بمهام أخرى تضيع ما يميزه ما طلب منه مثلاً العلم وحفظ القرآن، فقط خذ مايلزمك (فرض العين ..) من الدين وأخدم الدين بما يميزك حتى أن خالد رضي الله عنه قال: (لقد منعني كثيراً من القراءة الجهادُ في سبيل الله) . ولم يلتفت الى العمر الزمني للايمان أي لم يتم تصنيف الصحابة اعتمادا على اسبقية دخولهم الإسلام ؟ فهناك من الصحابة رضي الله عنهم عمره الإيماني أقل من أربع وعشرين ساعة[2] ، بل إن خالد ممن تأخر إسلامه فكان إسلامه في شهر صَفَر من السنة الثامنة من الهجّرة ومع ذلك تم استثمار قدراته من اول يوم نحو تحقيق استراتيجيات الإسلام لكن بما تميز به من قبل ومن بعد.
وقس على ذلك الكثير وقد يكون الشخص متميز بشيء وليس لديه التأهيل والتدريب الكافي من أدوات العمل أو لم يمكّن منها بالشكل الفاعل، فالنبي ﷺ كان يوفر له الأدوات والتدريب اللازم بل إذا اضطر الأمر إلى ابتعاثه داخلياً أو خارجياً لتمكين بيئات العمل من أعلى مستويات الاحترافية وتبادل الخبرات، فقد أمر رسول اللهّٰ صل اللهّٰ عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود فثبت عنه في الصحيح، أنه قال رضي الله عنه: “لما قدم النبي ﷺ المدينة أتي بي إليه، فقرأت عليه، فقال لي: ”تعلم كتاب اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابنا”، قال: فما مر بي خمسة عشر حتى تعلمته، فكنت أكتب للنبي صلى اللهّٰ عليه وسلم، وأقرأ كتبهم إليه”[3]
“ تعلم كتاب اليهود فإني لا آمنهم على كتابنا ”
وقد يكون الأنسب للبعض بقاءه في الصفوف الخلفية أو دون تكليف بمهام عملية تحتاج الى إدارة وفيها التزامات ومسؤوليات يترتب عليها أعباء مالية أو بشرية لا لعيب أو تقصير منه في اخلاصه أو تفانيه لتحقيق الأهداف لكن لأنه لا يملك المهارات والقدرات والأدوات الاحترافية لبلوغ الإنجاز المطلوب وفق معايير جودة الأداء الزمانية والمكانية، وأكبر مثال على ذلك أبو ذر رضي الله عنه فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رسول الله ﷺأَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي. ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرَ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)[4] ، يقدم النبي ﷺ صلى الله عليه وسلم ويؤخر وفق خارطة للموارد البشرية تحتوي على أدق التفاصيل للمهارات الوظيفية والقدرات العملية دون محاباة او مجاملة لأن الجميع مقصده تحقيق الإصلاح.
و ملخص القراءة الاستراتيجية :
- خدمة العمل تأتي من خلال ما تتميز به للوصول الى منتج احترافي يحقق الهدف بأعلى درجات الإنجاز وليس العمل لمجرد العمل دون الأخذ بالاعتبار مهنية الأداء وتوافقه مع المهارات الشخصية للعاملين فمفهوم القوي الأمين ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) يجمع بين العوامل المادية كالاحترافية والجدية في العمل (القوة) وبين العوامل المعنوية كالجودة والثقة (الأمانة)، لا تتقدم الصفوف او تُقدم ان لم تكن متميزا بذلك ، تمايز الصحابة بما تميزوا به فقط .
- أن الصحابة كلهم كانوا متساويين في قاعدة التأصيل بما يلزمهم من من فرض العين (للعقيدة والفقه و….)كلهم كانت منهجيتهم صحيحة و تربيتهم سديدة على يد النبي ﷺ ثم تميزوا كل على حده ، وهنا سر الخلطة الإستراتيجية في بناء خريطة النبي ﷺ ، إننا جميعاً لدينا ثوابت واصول الدين لكن كل منا يشارك في الإصلاح بما يميزه ( الشعر، اللغات، الفكر، الجهاد، القيادة، التجارة ….).
- لم يذكر عن الصحابة أن أحد عاب على الآخر أو انتقده فيما يتميز به لأنه يحقق مصلحة الإسلام ككل مثلاً خالد ابن الوليد لم يعيب أو يقلل من شأن أهل المدينة وجلوسهم للعلم والعبادة وعدم مشاركتهم الجهاد في سبيل الله ، وليس هذا عمق الاصطفاف إنما أنا أتميز بشيء وأنت تتميز بشيء آخر، وأهل العلم في المدينة لم يعيبوا ما تميز به خالد بل ناصروه مع أنه لم يكن في العلم مثلهم وهم في الجهاد ليسوا مثله، لذلك الصحابة صنعوا فسيفساء جميلة، ألوان مختلفة ولكنها متجانسة رسمت شكل وصورة منهج النبي ﷺ، منهجية واحدة وعقيدة واحدة والنبي ﷺ (المربي) واحد فلا يعيب أحدهما على الآخر بل أن كل فرد يكمل الآخر ، متى نفهم نحن في حياتنا العملية أننا كلنا نتميز بأشياء مختلفة ومتنوعة ولكن لا يقلل بعضنا من الآخر فمثلاً لو أن مدرسة من المدارس التي تميزت بالعلم الشرعي استندت إلى مدرسة أخرى تميزت بالإدارة ولو أن مدرسة تميزت بالعمل السياسي والعمل الفكري استندت إلى المدرسة التي تميزت بالعمل الشرعي لكي نكمل بعضنا البعض، إذا كان الهدف هو المنتج (خدمة الإسلام) . الواقع اليوم أن الأهداف الضيقة والمحصورة بفئة أو مكان جعلت لكل منا معايير في التميز، جعلتنا نعتقد أن ما نتميز به هو فقط ما يمثل الإسلام لذلك انعكس هذا على فشل التعاون والتقاطع الإيجابي وكثر التنافس السلبي بين بعضنا البعض.
- أن قيمة الأفراد في العمل لابد أن تكون بما حققوه لخدمة الدين من خلال ما تميزوا به ثم الالتفات إلى أي معايير أخرى هي أدنى في الاولوية على مثل إعطاء أولوية لعمر الشخص في عضوية العمل أو مدى التزامه بالأدوات الإجرائية للجمعية أو الجماعة دون النظر في عمق إيمانه وصلاحه وأثره في نفسه والآخرين، بل لابد أن تتوازى وتتوازن كل المعايير على أصل واحد وهو درجة قرب الشخص وعمق الأخذ للكتاب والسنة كمنهج للحياة.
- وهنا وقفة لكل صاحب قرار أو مسؤولية أن لا مجاملات أو محاباة تحت أي عنوان أو عذر من تأخير من حقه التأخير لا لسبب سوى أنه غير كفء للمكان الذي يرغبه أو نرغبه له والوقفة الأخرى لكل عامل مجتهد محب للخير لا تزاحم دون تميز ولا تتقدم دون كفاءة ومن رشد الرأي ورجاحة العقل أن نقول لا نعلم أو لا نستطيع، كما أن القيام بالأعمال وأدائها بحقها قربة الى الله كذلك الاعتذار عنها بعدم الاستطاعة قد تكون أعظم قربة إلى الله لما فيها من المجاهدة على حظوظ النفس وافساح المجال لمن هم أولى وأفضل.
- الأولوية لبناء قيمة الفرد للوصول إلى قيمة الجماعة وليس بناء قيمة الجماعة على حساب إغفال أو هدم قيمة الفرد ، فالنبي ﷺ ركز ابتداء على بناء الفرد علمياً وعملياً حتى يتمكن معه وبه من بناء المجتمع.
- عمق معرفته صلى الله عليه وسلم بموارده البشرية (خارطة الموارد البشرية ) ودقة الوصف والتحليل الوظيفي لكل فرد ولكل مهمة ، قال صلى الله عليه وسلم ( أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أبو بكرٍ وأَشَدُّهُمْ في أَمْرِ اللهِ عمرُ وأَصْدَقُهُمْ حَياءً عثمانُ وأعلمُهُمْ بِالحَلالِ والحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ بْنُ كعبٍ ، ولِكلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وأَمِينُ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ)[5].
- هناك فرق بين الاصطفاف والاصطفاء، الاصطفاء هي درجة من التزكية العلمية أو العملية للشخص ترتكز على العمق الإيماني أو مستوى القناعات التي يملكها نحو توجه أو تعاليم معينة ، أما الاصطفاف فهو تكليف عملي أو وظيفي لمهمة من أجل تحقيقها أو إتمام الإنجاز فيها، فليس بالضرورة أن من يكون من المصطفين يكون لديه موقع أو مهمة في عملية الاصطفاف والعكس كذلك ، وأوضح مثال على ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لا فهو من خيرة الصحابة اصطفاء لكن لم يكلف بأي مهمة (الاصطفاف) ، وكذلك خريت (دليل) النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة كان كافراً (عبدالله بن اريقط).
المراجع:
1-سورة الكهف 93/ 94.
2-هو عمرو بن ثابت بن وقيش ، ويقال: أقيش ، بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري ، وقد ينسب إلى جده فيقال عمرو بن أقيش. وأمّه بنت اليمان أخت حذيفة. وكان يلقب أصيرم، واستُشهد بأحد، هكذا سماه ابن حجر في “الإصابة” (5801).
3-رواه أبو داود – 3645 .
4-صحيح مسلم 1825.
5-سنن الترمذي 3790 .
- التالي
- سيعجبك أيضاً